الوباء هو الانتشار السّريع في رقعة جغرافية ما فوق معدلاته الطبيعيّة، ويؤثّر الوباء على العديد من الأشخاص في الوقت ذاته في منطقة ما، ويمكن أن يكون الوباء معدياً فينتقل من شخص إلى آخر وينتشر بشكل أكبر بينهم، ويؤدي إلى موت عدد كبير في وقت واحد. ونذكر على سبيل المثال وباء الموت الأسود خلال العصور الوسطى، وفي العصر الحديث انتشار مرض سارس، وإنفلونزا الطيور،وفيروس كورونا.إننا نحن الذين نؤمن بيسوع نولد، وننمو، ونعمل؛ ثم نموت. الكل يموت: الأهل يموتون، الأبناء يموتون، وأبناء الأبناء سيموتون. ليس أضعف من حياة البشر. وأيُّ تعبير يمكن أن نستخدمه للتعبير عن تفاهة هذه الحياة، سيعجز عن إظهار حقيقة هذه التفاهة. فسواء شبَّهتها بالبخار،أو العُشب،أو الحُلم،أو زنابق الحقل، أو بأي اسمٍ كان؛ فهي زائلة وأكثر زوالاً من العدم.
وفي ذكرى رحيل أبونا أباكير السرياني (1957-2002م) ترك لنا مقالة متميزة عن “الموت”، نشرت بمكتبة دير السريان العامر في عام(2002م)،وقدم لها صاحب النيافة الحبر الجليل الأنبا متاؤس فذكر قائلاً:”هذه مقالة أو رسالة عن الموت كتبها القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة إلى شعبه حينما حدث في إيبارشيته وبأ أو مرض خطير حصد الكثيرين من أبنائه، فإنزعج البعض وحزن لأجل أقاربه وأحبائه الذين ماتوا وإعترى الآخرين؛ خوف شديد أن يصيبهم هذا المرض اللعين ويقضي على حياتهم كما قضى على الآخرين، فكتب لهم أبوهم الروحي وأسقفهم الساهر هذه الرسالة يعزي الذين فقدوا أحباءهم ويشجع الخائفين من الموت أن يكونوا ثابتين ومؤمنين حقيقيين لا يهابون الموت الذي يسميه الجسر الذهبي الذي يوصل إلى الحياة الأبدية مع الرب يسوع والملائكة والقديسين”.
حاول أبونا المتنيح أباكير السرياني في مقدمة رسالته عن الموت أن يشجع الخائفين منه فذكر قائلاً:”إخوني الأعزاء المحبوبون،بالرغم إننى ألاحظ في الكثير منكم عقلاً ثابتاً، وإيمانا قوياً، وروحاً لا تضطرب بسبب تكرار هذه الوفيات الحاضرة،إلا إننى في الوقت نفسه أرى أن بعضكم بسبب ضعفهم أو بسبب تمتعهم بمباهج العالم الحاضر،أراهم لا يقفون بنفس الصلابة ولايظهرون القوة الروحية التى لا تقهر.. لذلك وجدت أن المشكلة لا يجب أن تنكر أو نقف إزاءها صامتين ..” . هنا كان يريد أبونا أباكير بمحبة وحكمة أن يوصل رسالته على أن البعض يحبون مباهج الحياة وسلطانها والتمتع بها،ويكرهون الأمراض لأنها الطريق للموت الذى يخافون منه ويهربون من سماع كلماته. وأيضًا أراد أن يؤكد على أن الموت آتٍ، إن آجلاً أو عاجلاً، والشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يتنبَّأ به الناس في حياتهم هو هذه اللحظة الأخيرة. كما ورد بالكتاب المقدس قائلاً: “وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ” (عب 9: 27).
وقد ركز أبونا المتنيح أباكير السرياني في رسالته عن “الموت” على اقتراب الملكوت،ولذلك يجب على الإنسان الذي يحارب من أجل الله أن يعرف ويدرك أنه يحيا في معسكر سماوي ويتنفس هواء روحياً،لذلك يجب علينا ألا نرتجف أو نضطرب أما عواطف هذا العالم ودواماته. كما ورد بالكتاب المقدس قائلاً:”وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ.” (1 يو 2: 17). الرب يسوع أخبر أبناء كنيسته وقواهم وأعدهم لتحمل كل ما سوف يأتي، لقد قال الرب إن حروبا ومجاعات وزلازل وأوبئة ستحدث في كل مكان، وخشية أن ننزعج لحدوث أمر مروع غير متوقع، فقد سبق الرب وحذرنا أن المحنة ستزيد أكثر فأكثر في الأيام الأخيرة. بمعني أن الموت قادم ولكن هل أنت مستعد له؟. لقد اقتراب الملكوت!. كما أن الرب يسوع نفسه وعدنا قائلاً:”هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَاعْلَمُوا أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ قَرِيبٌ.” (لوقا31:21).
على أية حال،حاول المتنيح الراهب أباكير السريانى فى رسالته عن الموت طرح سؤاله لعامة الشعب قائلاً: “إن السمائيات تحل محل الأرضيات، والباقيات محل الفانيات.إذن أى مكان بيننا لأى قلق أو إضطراب؟من منا سيكون مرتجفاً أو حزينناً إلا الذى يحيا بغير إيمان أو رجاء؟ من يخاف الموت إلا الذى لا يريد أن يذهب إلى المسيح؟ ومن لا يريد أن يذهب إلا الذى لا يؤمن أنه سوف يكون معه إلى الأبد؟!”،كما ذكر لنا مثالاً رائعاً عن حياة إيمان سمعان الشيخ الرجل البار الذى أعلمته السماء أنه لا يرى الموت حتى يعاين الطفل يسوع، الذى حمله على ذراعيها وهتف قائلاً:”الآن تطلق عبدك ياسيدى حسب قولك بسلام”( لوقا 29:2).
يا أحبائي……. الراهب الحبيب أباكير السريانى في مقالته عن”الموت”، كان يريد أن يوجه لنا دعوة إلى الاستعداد للموت قبل أن يُفاجئنا بغتة، كما ورد على لسان سليمان الحكيم قائلاً: “فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنُونَ إِذْ تَقُول:«لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ».” (جا 12: 1). وأيضًا “…..وَالشَّهْوَةُ تَبْطُلُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِهِ الأَبَدِيِّ، وَالنَّادِبُونَ يَطُوفُونَ فِي السُّوقِ ….فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا.” (جا 12: 5- 7)، وكذلك قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ.”(جا 1: 2)،عند الموت يعود الجسد إلى الأرض لينتظر قيامة الأجساد؛ أما النفس الحيَّة في الرب، فهي تبقى في فردوس النعيم، حيث تقف في حضرة الله الحاضر في كل مكان (لو 16: 20-25؛ عب 9: 27)، في حالة ”نياح“ أي ”راحة“:«فأُعطوا (الشهداء من أجل كلمة الله) كلَّ واحد ثياباً بِيضاً، وقيل لهم أن يستريحوا (يتنيَّحوا) زماناً يسيراً أيضاً حتى يَكْمَل العبيد رفقاؤهم وإخوتهم أيضاً العتيدون أن يُقتلوا مثلهم» (رؤ 6: 11). وموت المؤمن مُعتَبَر أنه ”رُقاد بيسوع“ (1تس 4: 14)؛ بمعنى أن في المسيح، الموت لمَن هم في شركة مع الروح القدس، ليس سوى رقاد (نوم)، يتبعه قيام واستيقاظ ليكون المؤمن مع المسيح (في 1: 20)، في انتظار يوم قيامة الأجساد. نريد هنا أن نقدم هذه الرسالة إلى كل إنسان حزين على فقد حبيب أو صديق لتكون سبب تعزية وبلسما شافيا له.
وأخيراً يمكن لنا القول أن مقالة الراهب المتنيح أباكير السريانى عن الموت،لخصها لنا صاحب النيافة الحبر الجليل نيافة الأنبا متاؤس رئيس دير السريان، فى مقدمته عند صدورها فى طبعتها الأولى فى(مايو 2002م) حيث ذكر قائلاً: “الموت هو جسر ذهبى به ننتقل إلى عدم الموت وبرحيلنا من هذه الحياة الفانية ننتقل إلى الحياة الباقية،فالموت ليس هو نهاية بل بداية حياة أخرى،عبور ورحلة إلى الخلود إلى الحياة الأفضل”. ويحتفل دير السريان والأسرة سنوياً بالقديس الروحانى”أباكير السريانى” بإقامة قـداس الـذكرى في26 مارس من كل عام.
د.ماجد عزت إسرائيل