يقول الأبنودى فى كتابه الرائع ايامى الحلوة عن طقس ( الغطاس ) فى الحادى عشر من الشهر القبطى ( طوبة ) يكون عيد الغطاس او المُسمى ( البلابيصا ) والمستمر من قديم الأزمان إلى الأن لكن الكهرباء افقدته الكثير من بهجته وسحره وغموضه وتوهته فى حياتنا كما تاه ” المسحراتى ” وكما فقد فانوس رمضان إضاءته الموضوعية لتتحول إلى إضاءة رمزية فى ( عيد الغطاس ) وفى زحمة الأعياد والمناسبات القبطية المتواليه , لم يكن نصارى مصر – فى الجنوب بالذات – يحتفلون بإعيادهم بعيداً عنا نحن اولاد المسلمين , بل كنا نستولى على هذه الأعياد فى حميمية المشاركة حيث لا يمكنك التفريق بين ابن النصرانى وابن المسلم كنا ولا نزال نطلق على القبطى لفظ ( المُصرانى ) , ولن يخفى على اى ذكى مُلهم إسم ( مصر ) المحشور داخل المُسمى الدينى ( المُصرانى ) كذلك – وكما يعلم الجميع – ان قبط هى بذرة لـــ Egypt حين تنطق ” القاف ” ” كافاً ” كما يفعل الأوربيون كنا نحتفل بـ ” سبت النور ” و ( احد الخوص ) اى ( احد السعف ) كما يسمونه هم كنا نأتى بالجريد الأبيض من حلق النخيل ونضفره فى اشكال رائعة ربما تقليداً للأقباط وربما مشاركة حقيقية لهم فى احتفالاتهم وطقوسهم وربما فى الطقس الأتى صورة لا تقبل الجدال للصلة المطلقة بين اهل قريتنا مسلمين ومسيحيين على الرغم من ان الطقس قبطى مائة فى المائة يأتى شهر (طوبة ) فى الشتاء , بل هو اقسى شهور الشتاء ( طوبة ما يخليش فى العنزة عرقوبة ) والمقصود انه من شدة البرودة لا تستطيع الماعز المسير ولا ان تحملها ” عراقيب ” رجلها التى يُخشبها البرد القارس هكذا كنا نجتمع عند ( القفاص ) الذى رأيناه يكف منذ عشرة ايام عن صنع اقفاصه ليفرغ لصنع ( الصُلبان ) صلبان جريدية مثقوب كل صليب من اضلاعه الأربعة يبرز من وسطه عود جريدى حاد متجه إلى اعلى وعود حاد يماثله متجه إلى اسفل نجد انفسنا وقد اشترى كل منا اربع شمعات رفيعه بيضاء ملطشة باللون الوردى ينتشر هذا الشمع فى القرية منذ اوائل شهر ( طوبة ) وربما هو الذى يذكرنا بإقتراب موعد ( البلابيصا ) من بعد العصر وقرب الغروب يتجمع ابناء كل درب من دروب القرية , كل منا حريص على الشمع سريع الكسر , إلى جواره يرقد عود قصب وفى حجره تستقر برتقاله ناضجه لم يكن القصب مثل قصب هذا الأيام الأبيض الجاف الذى يزرع من اجل تصنيعه سكراً فى مصانع السكر المنتشرة فى الصعيد , وإنما كان قصباً رقيقاً احمر يسمى ( خد الجميل ) وكان فعلاً ارق من ( خد الجميل ) وهل يكون لون خد الجميل إلا احمر فى قرية وجوه فتياتها شديد السُمرة قصب يساعدك هو نفسه على تقشيره برقته وليونة قشرته بخلاف ( خد الجميل ) كان هناك القصب المُسمى ( دراع البس ) وهو قصب مخطط خطوطاً طوليه مثل الوان ذراع القط الأحمر والأصفر والأسود . كنا نحب القطط إكراماً له لاحظ ان القرية فى ذلك الوقت كانت تصبح فى لون الكحل حين يجىء الليل . تتعرف على اقرانك فيها بالنداء لم تكن هناك كهرباء ولم يكن مع اهالينا ما يسمح لهم بإشعال فوانيس على ابواب الدروب او الدور لذلك كنا نستعد لـ ( البلابيصا ) قبل مجىء الغروب امامنا الصليب الجريدى المثقوب من الأربعة اطراف ومعنا الشموع النحيلة تغرس كل شمعة فى ثقب من ثقوب الصليب . نغرس البرتقالة فى العود الحاد المتجه إلى اعلى لتتوسط البرتقالة شموع الصليب ثم نغرس العود الحاد المتجه إلى اعلى فى قمة عود الصليب بعد ان نزيل عنه زعزوعته الورقية الخضراء فى قمة رأسه هكذا ثم نشعل الشمعات الأربع ليتأجج الضوء قليلاًَ فى رقصة تدرب عليها جيداً فى هواء الشتاء الخفى ثم نرفع عود القصب ممسكين به من اسفله كل اطفال القرية نصارى ومسلمين يرفعون صلبانهم المضيئة ليسطع النور فى ارجاء القرية المُظلمة تخيل نفسك تطل من فوق . من سطح البيت وترى جيوش الصلبان المضيئة تمر من تحت دارك بالمئات وامهاتنا يرششن الفشار وقطع السكر والحمص ويزغردون يمر الموكب من دار إلى دار ومن درب إلى درب تتلألأ الشموع وتعلو الزغاريد ونحن نغنى تلك الأغنية المهيبة التى لا نعرف معنى محدداً لمعظم مفراداتها بل لعنوانها اصلاً الذى هو اسم الطقس القبطى نفسه ولقد سألت اهل اللغة القبطية وعلماء الفرعونية ولم يدلنى احد حتى الأن على معنى كلمة ( البلابيصا ) وبالتالى الفعل ( بلبصى ) ثم المفعول به ( الجِلبة ) وهناك معان متناثرة توحى بأن السنة القديمة قد انقضت وهى اشبه بإمراه ماتت لتأتى سنه على هيئة فتاة شابه ترحل فى نهاية السنة الجديدة وصورة لجمل يحطم مدفعاً وأظنها صورة متبقية من حملة ( ديزيه ) على صعيد مصر إبان الحملة الفرنسية لكن وبتفكير بسيط وبدون الغوص فى القواميس واللغات اكتشفت – لأن الأغنية تمت لعيد الغطاس الذى يسقطون فيه الأطفال ( بلابيصاً ) عرايا فى الماء – ان الأغنية تعبير عن هذا الغطاس البلابيصى هكذا كنا ندور لنقف عند كنيستنا القديمة ثم ناحية المساجد الثلاثة بين تحية اهل القرية – رجالاً ونساء نصارى ومسلمين – وتهليلهم , اما نحن فكنا نغنى تلك الأغنية ” السريالية ” التى تحكى عن امرأه تنادى على ابنها ( على ) ليصحوا مبكراً لأن السنة القديمة قد رحلت كأنها امرأه عجوز اختطفها الموت وكيف ان الجمل ( برطع ) وفى برطعته القوية كسر المدفع ثم نعود نطالب هذه ( البلابيصا ) بأن ( تبلبص ) ( الجِلبة ) ونحن لا نعرف ما هى ( البلابيصا ) ولا كيف ( تبلبص ) ولا ما هى ( الجِلبة ) وإليكم الأغنية يا بلابيصا بلبصى الجلبة يا ” على ” يا بنى جُوم بنا بدرى دى السنة فاتت والمرا ماتت والجمل برطع كسر المدفع !! لا شك ان ( البلابيصا ) و( البلبوص ) هو العرى الذى يتشارك فيه كل مواليد الأقباط الجدد ( التعميد ) حيث يخلعون ملابسهم فيصبحون ( بلابيصاً ) واظن ان الأغنية فى طقس ( البلابيصا ) هى لافته تعلن الأحتفال بعيد الغطاس كما ذكرنا وإن كان من الصعوبة بمكان اكتشاف ذلك من الأغنية وهناك , حين تغول الليل ويغول الليل فى زمن القرية حين تذوب الشموع النحيلة , نعود إلى الدروب , كل جماعة فى ركن نلتهم البرتقالات ثم نتجه نحو عود القصب ليلتهم بدوره الجزء الأكبر من الليل اما فى الدُور وفى تجمعات الرجال فإن لبشاً ضخمة من القصب تُمص فى تلك الليلة وكأنه عيداً للقصب وليس عيداً قبطياً للغطاس ويغنون جميعا بفرح ليلتك يا بلابيصا ليلة هنا وزهور وفى ليلتك يا بلابيصا حنو العصفور ويقول الاطفال الاقباط اذا احتفلو وحدهم يا ليلة الغطاس يا فرحة كل الناس بعماد الرب ايسوس نسجد ونقول اجيوس باركنا يا قدوس واحفظ على الدوام اسقفنا الانبا — لكن هل لازال هذا الطقس معمولاً به فى هذه الأيام ؟! لم يثر عبد الرحمن الأبنودى هذه النقطة فى كتابه ( ايامى الحلوة ) لأنه وكما يبدو كان يتحدث عن الأيام الحلوة الأيام التى ( كانت حلوة ) فلم يرد ان يثير شجوننا وشجونه ويتحدث عن بلابيصا هذه الأيام الا ان ترتيباً الهياً جعلنى اسقط على مقال خفى فى جريدة قصية تصدرها جمعية الصداقة المصرية الكندية فى مونتريال – كندا هناك وجدت عبد الرحمن الأبنودى يرثى ايامة التى لم تعد حلوة كما كانت حيث الشمع صار شمعاً وفقد رمزيته لعيد الأنوار والصلبان اكتشفوا حاملوها وصانعوها انهم مسلمون فكفوا اختفى الطقس البلابيصى المحبب ذلك الطقس الذى كان رمزاً للتآلف والتداخل والتمازج ولهذا – والميكروفون ينتقل الأن مرة اخرى لعبد الرحمن الأبنودى – سببان أولهما أن الكهرباء دخلت القري فأضاءت أرجاءها ما أفقد رقصة الشموع سحرها القديم إذ أن الليل كان ـ بظلامه ـ يلعب الدور الأهم في هذه المسرحية الدينية الشعبية المشتركة. كان كل أطفال القرية يمشون في حشد رهيب مهيب يرفعون صلبانهم المضيئة فينيرون القرية المظلمة ويتصاعد الغناء معطياً مهابة غير محدودة لموكب الشموع وجيش الأطفال وارتفاع أصوات إنشاد الكورال البرئ! عاد الشمع ليصبح شمعا مرة أخري وليس رمزا كما كان في البلابيصا!! وثانيهما … أي أن أهالينا صاروا يوقدون الشموع ولايصرِّحون لأبنائهم برفع الصٌّلبان. كما أن القفاصين ـ الذين يصنعون الأقفاص والسرر الجريدية إلي جانب الصلبان في احتفالية البلابيصا، أدركوا ـ أخيراً ـ أنهم مسلمون فكفوا عن تصنيع الصلبان!!. ذلك لأن قوي التطرف الديني بما فرضته علي المجتمع من سلوكيات وما كرسته ورسخته من انفصال ومن إعلاء لنبرة التحزبات الدينية في فترة سابقة أنبتت تلك الغلالة العازلة بين الأخوة والأخوة والتي تبدو شفيفة، لكنها صارت صلبة تعزل الأخ عن الأخ، والمواطن عن المواطن، ولابد من أنهم رأوا في البلابيصا مظهراً لايليق. إذ أن الاحتفال قبطي ونحن إلي آخر هذا التخلف الذي حاول النيل من وحدة سكان ضفتي النيل العبقرية!! هكذا فإن هذا الطقس الاحتفالي الجماعي الأخوي في سبيله إلي الانقراض. انكمش وصار لكل فريق منا احتفالية بعد أن كان هذا الامتزاج هو روح مصر ومجسد وحدتها!!. لكنك لا تستطيع أن تمحو المرسوم والمكتوب علي صفحات ضمائر الشعوب بأستيكة. تنام الاشياء كأنها ذبلت وسقطت ودهستها أقدام الأزمنة ثم إذا بها حين تري النور، وبانزياح الغمة ولحظة أن تري اللحظة مواتية تهب من مرقدها التاريخي لتعيد تجديد جلدها تحت الشمس وحرارتها في علن العلن. لذلك لن تموت مصر، ولذلك لم تستطع القوي المعادية زرع الفتن!! كنت هناك في عيد الغطاس منذ أيام. جلست علي مقاه، ومررت بدكاكين للمسلمين في شوارع ضيقة من شوارع مدينة الأقصر فوجدت شموع البلابيصا وقد عادت للحياة . صحيح أني لم أرها مرفوعة علي أعواد القصب الهزيلة التي لم تعد تصلح لذلك بعد أن انقرضت الزريعة القديمة للقصب القديم. ولكني وجدتهم غرسوها علي شبابيك المقاهي بعيداً عن الهواء كي لا تنطفئ وعلي بنوك الدكاكين الصغير بالعشرات. إذ كلما أشعل الواحد منهم زيادة في الشمع كلما شارك بحق في هذا العيد الرمز لوحدة شعب مصر الخالدة عيد الغطاس كل عام وجميع الأحباء بخير وسلام