السياق التاريخي للبشارة والميلاد
بعد صوم بلغ مدته ثلاثة وأربعون يوماُ تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية؛ وفق التقويم القبطى يوم 29 كيهك/7 يناير بعيد الميلاد المجيد، وخلال فترة صوم الميلاد نعيش في إحساس مجيء المسيح إلينا، لهذا فإن الهدف الأول لصوم الميلاد هو تهيئة روح الإنسان لاستقبال الطفل يسوع أو المسيح المخلص. وأيضًا صوم فرح وتسبيح وتهليل وشكر.كما ينتظر الجميع مـا كتبه الأنبياء بالوحي الإلهي من نبوَّات صعبة التصديق: «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَـةً: هَـا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ ”عِمَّانُوئِيلَ“» (إش 7: 14)؛( مت 1: 23). وأيضًا “لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ.” (إش 9: 6). وكذلك في 29 من برمهات، و29من كل شهر قبطي تُعيِّد الكنيسة بالبشارة والميلاد؛ أي باليوم الذي بشَّر فيه الملاك جبرائيـل العذراء ابنـة الناصرة بتجسُّد ابن الله وميلاده منها، أي بُشْرَى الخلاص للبشر والنجاة من الموت ونوال الحياة الأبدية، أي بداية العهد الجديد وعيد الميلاد المجيد الذي هو عيد الخليقة الجديدة. وتُسجِّل بشارة القديس لوقـا تفاصيل المشهد الذي بدأه الملاك جبرائيل بتحيَّة العذراء: «سَلاَمٌ لَكِ أَيـَّتُهَا المُمْتلِئة نِعْمَـةً! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». واللافت للنظر أنَّ العذراء لم تندهش لمَرْأى الملاك المهيب، وإنما اضطربت مـن كلامه ومـا عسى أن يكون وراءه. فأفصح الملاك عن إرساليته وبشارته مُطَمئناً إيَّاها قائلاً: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَـدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ» (لو 1: 30) ، «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لو 1: 28-33).
والحقيقة أن هذا الكلام غريباً على مسامعها. فالملاك يتكلَّم عن حَبَل وولادة لابن العَليِّ، فتقول مُتحيِّرة: «كَيْفَ يَكُـونُ هـذَا وَأَنَـا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟» (لو 1: 34). فيأتي الرد ناسباً الأَمر كله إلى التدبـير الإلهي: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ»، ثم يسند إيمانها بما يكشف عـن قدرة الله وإنعامه على أليصابـات قريبتها العاقر الطاعنة في السنِّ بابـنٍ (يوحنا ابن زكريا الذي يُهيِّئ الطريق قدَّام ابن الله)، «لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَـيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ» (لو 1: 35-37). وأكد القديس لوقا على تحقيق الخلاص بيوم البشارة حيث ذكر قائلاً: “فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». فَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا الْمَلاَكُ.” (لو 1: 38) . وهكذا بَدَأ تحقيق الخلاص بيوم البشارة، أي الخبر السار، الذي أَدْخَل الفرح مـن جديـد في حياة الناس بعد أن ساد عليهم حزن الموت طويـلاً. بل قد سبق مجيء المسيح قرون أربعة لم يكن فيها أنبياء، وغلب عليها الصمت والغربة والظلام. هكـذا بشَّر الملاكُ الرعـاةَ بميلاد المسيح: «هَـا أَنَـا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُـونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو 2: 10).
وتسجل بشارة القديس متى مشهد المجوس حـاملي الهدايـا للمولود حيث ذكر قائلاً: “فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدًّا» (مت2: 9-10). وهكذا بمجيء المسيح إلى العالم مولودًا في بيت لحم، دُعي الله ”عمانوئيل“ في شخص المسيح، أي «اَللهُ مَعَنَا» (مت ١: ٢٤).وبهذا صار المسيح الجوهر الإلهي المُعلَن والمدرَك لجوهر الله غير المعلَن وغير المدرَك، وصار المسيح للإنسان كفاية كل الكفاية عوض كل الناموس والوصايا وكل الكلمات والنبوَّات، لأن فيه وبه استُعلن الله للإنسان استعلانًا كليًّا وكاملًا ونهائيًّا: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يو ١٤: ٩).
أيقونة البشارة والميلاد.. من الفن الكنسي الأصيل
الفن الكنسي أداة في يد العابدين لتمجيد الله وللتعبير عن التقليد المسيحي والتعليم الأبوي لآباء الكنيسة والمجامع المقدسة.وهذا التقليد الفني قائم ومؤسَّس على تعليم الكنيسة الأرثوذكسية عن موهبة الإبداع التي وضعها الله في نفس المؤمن المسيحي ليُعبِّر بها عن محبة الله للإنسان والعالم، وليرفع من خلالها التمجيد لله على هذه المحبة.
وقد نجح الفنان القبطي في تحويل كل النصوص الدينية التي وردت في الكتاب المقدس عن أحداث البشارة والميلاد إلى أيقونة؛ وهي مبنيّة على ثوابت تقرّها الكنيسة لا على مشاعر الفنان الشخصية، ولا تعد الصورة أيقونة ما لم تُرسم على الخشب، والغاية منها كما يقول القديس باسيليوس “أن تجذب الأنظار وتجعل الحقيقة التي تمثِّلها أحبّ إلى عقولنا وأعمق وأسرع وأبقى تأثيراً في نفوسنا ” والغاية الأخرى هي أن تعلِّمنا بعض الحقائق التاريخية واللاهوتية،فالفنان حين يرسم صور القديسين والشهداء، يعمل على إبراز فضائلهم فى صورة واقعية تستحث المؤمنين على الإقتداء بهم، وهكذا تكون الأيقونات نوافذ يبصر منها المؤمن نور السماء،وترتبط الأيقونة بالعقيدة الأرثوذوكسية ارتباطا وثيقاً،لأنها عقيدة أساسية من عقائد الكنيسة الأرثوذوكسية.والأيقونة من العناصر الأساسية في العبادة لأنها تنقل لنا البشارة التي أعنها الله لنا،فهى” كتاب مقدس ملون”و”نافذة على الأبدية” وهذا ما معناه أنها تضعنا أمام الشخص المرسوم وتدخلنا في حوار معه.كما أنها وسيلة فى الكنائس يغنى بها عديم القراءة (الأمى) بالنظر إليها عن الكتب التى لا حيلة لها فى قراءاته.
على أية حال،تعد الأيقونة الأرثوذكسية التقليدية ليست مجرد صورة دينية،كما إنها ليست مجرد تصوير لقديس أو قديسة مسيحية أو حَدَث من التاريخ الكنسي؛ بل على العكس تماماً فالأيقونة تعبير عن الحقيقة الأبدية والإلهية ومغزاها، والغرض والهدف من تصوير الشخص أو الحَدَث. وفي جوِّ الحرية الموهوبة من الإلهام الإلهي لراسم الأيقونة، يستطيع الراسم أن يُصوِّر موضوعها باعتباره موضوعاً إنسانياً، لكنه في نفس الوقت ممتلئاً من المسحة الإلهية؛ فهو من الأرض، لكنه في نفس الوقت يشدُّ القارئ إلى السماء؛ ماديٌّ، وفي نفس الوقت روحيٌّ؛ سواء كانت تُصوِّر استشهاداً أو صليباً، ولكنه ممتلئ نعمةً ونوراً وسلاماً وفرحاً، هو فرح القيامة والتجلِّي. بهذه الطريقة تصير الأيقونة تعبيراً عن ”الواقعية“ المسيحية أكثر من كونها صورة فوتوغرافية لشخصٍ أو حدث من التاريخ، أو لوحة فنية من كبار الفنانين الإيطاليين أو غيرهم ما تزخر بمثلها المكتبات وكثير من الكنائس. وبهذه الأوصاف الفريدة للأيقونة المسيحية بمختلف أنواعها، ومن خلال تشكيلها وأسلوب وطريقة تصويرها، بالإضافة إلى مضمونها الواقعي واستعمالها في الكنيسة؛ تصير مصدراً لا ينضب من الإعلان عن الإيمان الأرثوذكسي وتعاليمه.
ومن الجدير بالملاحظة أن أيقونة البشارة تحمل العديد من الدلالات نذكر منها ملامح السيدة العذراء والدة الإله وهي تمثّل الكنيسة المصّلية التي تحبل بالكلمة المتجسد، وتتقبل تدبير الرب ببساطة قلب، وبشارة الملاك جبرائيل لها، ولكنها مندهشة كيف يكون لها هذا وهي لا تعرف رجلا. كما أن إشارة يد السيدة العذراء في الأيقونة يشير إلى خضوعها لمشيئة الله « لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». (لو 1: 38). وأيضًا ملابس السيدة العذراء ذات اللون البني، إشارة إلى أنها بشر مثلنا من طين، فهي تنتظر الخلاص.كما ورد بالكتاب المقدس على لسانها قائله:”وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي،” (لو 1: 47)، كذلك السيدة العذراء ترتدي رداء أزرق لون السماء، لأنها السماء الثانية الجسدانية،أما اللون الأحمر بالأيقونة فهو رمزا للمجد والفداء الذي سيتممه رب المجد، وشعاع النور يسقط من السماء على العذراء رمز لحلول الروح القدس عليها،كما تظهر ستائر خلف السيدة العذراء رمزا لخيمة الاجتماع، حيث يقابل يهوه شعبه في العهد القديم “وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ، مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ، بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.” (خر 25: 22)، أما خلفية الأيقونة مذهبة برقائق معدن الذهب لتعكس النور الإلهي. والكتاب المفتوح أمامها مكتوب فيه «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ».” (إش 7: 14)
ومن الجدير بالذكر من يتأمل أيقونة الميلاد يجد بها العيد من القيم الدينية والروحانية والإنسانية نذكر منها على سبيل المثال، أنها تبيّن حقيقة تجسد ابن الله، فتضعنا أمام شهادة مرئية للعقائد الأساسية للإيمان المسيحي، وأيضًا تُظهر لنا العديد من التفاصيل الألوهة والطبيعة البشرية لكلمة المتأنس، وكذلك تفسر لنا تأثير هذا الحدث – ميلاد الطفل يسوع- على حياة العالم الطبيعية. كما ذكر القديس غريغوريوس اللاهوتي قائلاً:”ميلاد المسيح ليس احتفالاً للخليقة، بل هو احتفال إعادة الخليقة”. وكذلك هذه الأيقونة رمزاً للميلاد الجديد للإنسان والسلام مع الآخرين “«الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».”(لو2: 14)، الكل يقدِّم الشكر على طريقته الخاصة الملائكة بالترتيل،والسماوات بالنجم، والأرض بالمغارة، وأما نحن فنقدّم أماً عذراء، والمجوس بهداياهم التي قدموها للمخلص وهي الذهب واللبان والمُرُّ. حيث إنهم كانوا ذوي شأن في غناهم وتميُّزهم، فقد لُقِّبوا بالحكماء. ويلزمنا أن نفترض أنَّ هداياهم كانت من أفضل وأثمن الأنواع التي أمكن الحصول عليها في ذاك الزمان،ولقيمة هذه الهدايا ودلالاتها ورد ذكرها في الكتاب المقدس قائلاً: “وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا.” (مت 2: 11). وهذه الهدايا ذكرها الفنان في أيقوناته عن الميلاد العجيب.
على أية حال، نلمس في الأيقونات التي رسمت للسيدة العذراء مريم منذ البشارة وحتى ميلاد السيد المسيح، الإحساس بالروحانية والبساطة في الخطوط والألوان،وأيضًا تجنب إظهار النواحي المادية وكذلك التكوين المحكم حيث شفافية اللون،ومرونة الشكل وتنوعه وديناميكيته، فالخطوط الرئيسية تتجه كلها نحو النور الذي يتوسط الأيقونة ويمثلها الطفل يسوع وأمه ذات الجمال القدسي رمزاً للنقاء والطهر والقداسة، وهي تشير بإصبعها للطفل يسوع الراقد في المزود وأمامها “سالومي” ويقف القديس يوسف النجار،وأعلى الرسم نجد الملائكة يسبحون الله، وملاكاً منهم يبشر الرعاة. كما نجد المجوس الذين أرشدهم نجم من السماء إلى حيث ولد الطفل يسوع وأتى إلى العالم نوراً وضاحاً. ولمن يجدون قراءة لغة الجسد يلمس العديد من التعبيرات ارتسمت على وجوه كل المحيطين بالطفل وأمه.